فصل: سورة فصلت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (77- 85):

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيساً له، وإلافهو، عليه السلام، في غاية الصبر، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق. قيل: وجواب {فإما نرينك} محذوف لدلالة المعنى عليه، أي فيقر عينك، ولا يصح أن يكون {فإلينا يرجعون} جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيب {فإما نرينك} بعض الموعود في حياتك، {فإلينا يرجعون} ليس بظاهر، وهو يصح أن يكون جواب، {أو نتوفينك}: أي {فإلينا يرجعون}، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونظير هذه الآية قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين. وقال الزمخشري: {فإلينا يرجعون} متعلق بقوله: {نتوفينك}، وجزاء {نرينك} محذوف تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل يوم بدر فذاك، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر، فإلينا يرجعون يوم القيامة، فننتقم منهم أشد الانتقام. وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم} ورددنا عليه، فيطالع هناك. وقال الزمخشري أيضاً: {فإما نرينك} أصله فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون؛ كما أنك إذا جئت لم تجئ بما، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما، ولم تجئ بما مع مجيئك بالنون. وقرأ الجمهور: يرجعون بياء الغيبة مبنياً للمفعول؛ وأبو عبد الرحمن، ويعقوب: بفتح الياء؛ وطلحة بن مطرف، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب.
ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، وفي عدد الرسل اختلاف. روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من غيرهم. وروي: بعث الله أربعة آلاف نبي، {منهم من قصصنا عليك}: أي من أخبرناك به، أما في القرآن فثمانية عشر. {ومنهم من لم نقصص عليك}، وعن علي، وابن عباس: أن الله بعث نبياً أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص عليه. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}: أي ليس ذلك راجعاً إليهم، لما اقترحوا على الرسل قال: ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله، {فإذا جاء أمر الله}: رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات، وأمر الله: لقيامة. والمبطلون: المعاندون مقترحون الآيات، وقد أتتهم الآيات، فأنكروها وسموها سحراً، أو {فإذا جاء أمر الله}: أي أراد إرسال رسول وبعثة نبي، قضي ذلك وأنفذه {بالحق}، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته، أو {فإذا جاء أمر الله}: وهو القتل ببدر.
ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نِعم فقال: {الله الذي جعل لكم الأنعام}، وهي ثمانية الأزواج، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج. {لتركبوا منها}: وهي الإبل، إذ لم يعهد ركوب غيرها. {ومنها تأكلون}: عام في ثمانية الأزواج، ومن الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية: ومن الثانية لبيان الجنس، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى، ولا يظهر كونها لبيان الجنس، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة، إذ فيه منفعة الأكل والركوب. وذكر إيضاً أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، أكد منفعة الركوب بقوله: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} من بلوغ الأسفار الطويلة، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة، وقضاء فريضة الحج، والغزو، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب، أو مندوب كالحج وطلب العلم، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا. ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات، لم يجعل ذلك علة في الجعل، بل ذكر أن منها نأكل، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، كما أدخل لام التعليل في لتركبوها، ولم يدخلها على الزينة في قوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال: {وعليها وعلى الفلك تحملون}. ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه: حمل في الفلك، كقوله: {احمل فيها} ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله: {وعليها}، وإن كان معنى في صحيحاً {ويريكم آياته}: أي حججه وأدلته على وحدانيته. {فأي آيات الله تنكرون}: أي إنها كثيرة، فأيها ينكر؟ أي لا يمكن إنكار شيء منها في العقول، {فأي آيات الله} منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: {فأي آيات} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى، ومن قلة تأنيث: أي قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة ** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب

وقوله: وهي في أي أغرب، إن عنى أياً على الإطلاق فليس بصحيح، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول: يا أيها المرأة، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة، فكلامه صحيح، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة، وما في قوله: {فما أغنى} نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي، وما فيما كانوا مصدرية، أو بمعنى الذي، وهي في موضع رفع، والضمير في {جاءتهم} عائد على {الذين من قبلهم}. وجاء قوله: {من العلم} على جهة التهكم بهم، أي في الحقيقة لا علم لهم، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم: {ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً} أو اعتقدوا أن عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء، كما تزعم الفلاسفة. والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. ولما سمع سقراط، لعنه الله، بموسى، صلوات الله على نبينا وعليه، قيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد. وقيل: الضمير في {فرحوا}، وفي {بما عندهم} عائد على الرسل، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم. وقيل: الضمير في {فرحوا} عائد على الأمم، وفي {بما عندم} عائد على الرسل، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. وقال الزمخشري: ومنها، أي من الوجوه التي في الآية في قوله: {فرحوا بما عندهم من العلم}، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. انتهى. ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو قولهم: شر أهر ذا ناب، على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل، لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة، فلا يوثق بشيء منها.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد {فرحوا بما عندهم من العلم}: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ذلك مبلغهم من العلم، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات، لم يلتفتوا إليها، وصغروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. انتهى، وهو توجيه حسن، لكن فيه إكثار وشقشقة. {بأسنا}: أي عذابنا الشديد، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به، وأن ذلك لم يك نافعاً، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان، وتخويف من التأني. فأما قوم يونس، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم، وتقدمت قصتهم.
وإيمانهم مرفوع بيك اسماً لها، أو فاعل ينفعهم. وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في: كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون، لا على النفي، لأنه يؤدي إلى نفي الصحة، إي لم يصح ولم يستقم لقوله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} وترادف هذه الفاءات، أما في {فما أغنى}، فلأنه كان نتيجة قوله: {كانوا أكثر منهم ولما جاءتهم رسلهم}، جار مجرى البيان والتفسير لقوله: {فما أغنى عنهم}. و{فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله: {فلما جاءتهم}، كأنه قال: فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله، وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، أي أن ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم، وتعذيب من كذبهم واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل: سنة منصوب على التحذير، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل.

.سورة فصلت:

.تفسير الآيات (1- 12):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها، أنه قال في آخر ما قبلها: {أفلم يسيروا في الأرض} إلى آخرها، فضمن وعيداً وتهديداً وتقريعاً لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتاباً مفصلاً آياته، بشيراً لمن اتبعه، ونذيراً لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه. ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي. ثم قال: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة}، فكان هذا كله مناسباً لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي، واستئصال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم.
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به. فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم}، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}، فأرعد الشيخ ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئاً ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي. {تنزيل}، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل عند الفراء، أو مبتدأ خبره {كتاب فصلت}، عند الزجاج والحوفي، وخبر {حم} إذا كانت اسماً للسورة، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل. قيل: أو خبر بعد خبر. {فصلت أياته}، قال السدي: بينت آياته، أي فسرت معانيه، ففصل بين حرامه وحلاله، وزجره وأمره، ووعده ووعيده. وقيل: فصلت في التنزيل: أي لم تنزل جملة واحدة. قال الحسن: بالوعد والوعيد. وقال سفيان: بالثواب والعقاب. وقال ابن زيد: بين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خالفه. وقيل: فصلت بالمواقف وأنواع، أو آخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ولا نحوها، كالشعر والسجع.
وقال أبو عبد الله الرازي: ميزت آياته، وجعل تفاصيل معان مختلفة، فبعضها في وصف ذات الله تعالى، وشرح صفات التنزيه والتقديس، وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، وعجائب أحوال خلقه السموات والكواكب، وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان؛ وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار؛ وبعضها في المواعظ والنصائح؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس؛ وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين. وبالجملة، فمن أنصف، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن.
انتهى.
وقرئ: فصلت، بفتح الفاء والصاد مخففة، أي فرقت بين الحق والباطل؛ أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قوله: {فصلت العير} أي انفصلت، وفصل من البلد: أي انفصل منه، وانتصب {قرآناً} على أنه حال بنفسه، وهي مؤكدة، لأنها لا تنتقل، أو توطئة للحال بعده، وهي {عربياً}، أو على المصدر، أي يقرؤه قرآناً عربياً، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالاً فقيل: ذو الحال آياته، وقيل: كتاب، لأنه وصف بقوله: {فصلت آياته}، أو على إضمار فعل تقديره: فصلناه قرآناً، أو مفعول ثان لفصلت، أقوال ستة آخرها للأخفش. و{لقوم} متعلق بفصلت، أي يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنه فصل لهؤلاء، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفاً، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه، إن كان من الرحمن في موضع الصفة، أو أبدل منه كتاب، أو كان خبر التنزيل، فيكون في ذلك البدل من الموصول، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه، وهو لا يجوز، وقيل: لقوم في موضع الصفة لقوله: {عربياً}، أي كائناً لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. وانتصب {بشيراً ونذيراً} على النعت لقرآناً عربياً، وقيل: حال من آياته. وقرأ زيد بن علي: بشير ونذير برفعهما على الصفة لكتاب، أو على خبر مبتدأ محذوف، وبشارته بالجنة لمن آمن، ونذارته بالنار لمن كفر. {فأعرض أكثرهم}: أي أكثر أولئك القوم، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام، بل أعرضوا، {فهم لا يسمعون} لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه.
ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه، وهو قوله تعالى، حكاية عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر}، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة: وقر بكسر الواو، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق، كأن قلوبهم في غلاف، كما قالوا: {وقالوا قلوبنا غلف} وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم. والحجاب: الستر المانع من الإجابة، وهو خلاف في الدين، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال: يا محمد، بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه. وقيل: تمثيل بعدم الإجابة. وقيل: عبارة عن العداوة. ومن في {مما تدعونا} إليه لابتداء الغاية، وكذا في {ومن بيننا}. فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: {وفي آذاننا وقر}، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: {قلوبنا في أكنة}، والدليل عليه قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم} ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة، لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، وتقول: إن في أبلغ في هذا الموضع من على، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول: المال في الكيس، بخلاف قولك: على المال كيس، فإنه لا يدل على الحصر، وعدم الحصول دلالة الوعاء. وأما في قوله: {إنا جعلنا}، فهو من أخبار الله تعالى، لا يحتاج إلى مبالغة، بخلاف قولهم. وقول الزمخشري: وترى المطابيع، يعني من العرب وشعرائهم، ولذلك تلكم الناس في شعر حبيب، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه؛ قالوا: وأحسنه ما جاء من غير تكلف. {فاعمل إننا عاملون} قال الكلبي: في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها. وقال الفراء: اعمل على مقتضى دينك، ونحن نعمل على مقتضى ديننا، وذكر الماوردي: اعمل لآخرتك، فإنا نعمل لدنيانا. ولما كان القلب محل المعرفة، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء. واحتمل قولهم: {فاعمل إننا عاملون}، أي تكون متاركة محضة، وأن يكون استخفافاً. {قل إنما}، {يوحى إليّ} وقرأ الجمهور: قل على الأمر، وابن وثاب والأعمش: قال فعلاً ماضيا، وهذا صدع بالتوحيد والرسالة. وقرأ النخعي والأعمش: يوحى بكسر الحاء؛ والجمهور: بفتحها، وأخبر أنه بشر مثلهم لا ملك، لكنه أوحى إليه دونهم. وقال الحسن: علمه تعالى التواضع، وأنه ما أوحى إليه توحيد الله ورفض آلهتكم. {فاستقيموا إليه}: أي له بالتوحيد الذي هو رأس الدين والعمل، {واستغفروه}: واسألوه المغفرة، إذ هي رأس العمل الذي بحصوله تزول التبعات. وضمن استقيموا معنى التوجه، فلذلك تعدى بإلى، أي وجهوا استقامتكم إليه، ولما كان العقل ناطقاً بأن السعادة مربوطة بأمرين: التعظيم لله والشفقة على خلقه، ذكر أن الويل والثبور والحزن للمشركين الذين لم يعظموا الله في توحيده، ونفي الشريك، ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث. والظاهر أن الزكاة على ظاهرها من زكاة الأموال، قاله ابن السائب، قال: كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون. وقال الحسن وقتادة: وقيل: كانت قريش تطعم الحاج وتحرم من آمن منهم.
وقال الحسن وقتادة أيضاً: المعنى لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها. وقال مجاهد والربيع: لا يزكون أعمالهم. وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة هنا لا إله إلا الله التوحيد، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى} ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، قاله ابن عطية، قال: وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهير من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع. وقال الضحاك ومقاتل: الزكاة هنا النفقة في الطاعة. انتهى. وإذا كانت الزكاة المراد بها إخراج المال، فإنما قرن بالكفر، لكونها شاقة بإخراج المال الذي هو محبوب الطباع وشقيق الأرواح حثاً عليها. قال بعض الأدباء:
وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ ** به فأجبت المال خير من الروح

أرى حفظه يفضي بتحسين حالتي ** وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح

{إن الذين آمنوا}، قال السدي: نزلت في المرضى والزمني إذا عجزوا عن إكمال الطاعات، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون. والممنون: المنقوص، قاله ابن عباس، رضي الله عنه. قال ذو الأصبغ العدواني:
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ** على الصديق ولا خيري بممنون

وقال مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير مقطوع، قال الشاعر:
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ** يعطى بذلك ممنوناً ولا نزقا

وقيل: لا يمن به لأن أعطيات الله تشريف، والمن إنما يدخل أعطيات البشر. وقيل: لا يمن به لأنه إنما بمن التفضيل، فأما الآخر فحق أداؤه، نقله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. {قل أئنكم لتكفرون}: استفهام توبيخ وتشنيع عليهم، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه، ووصف صورة خلق ذلك ومدته، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتباً، وتقدم الكلام في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتب، وتقدم الكلام في أول ما ابتدئ فيه الخلق، وما خلق مرتباً. ومعنى {في يومين}: في مقدار يومين. {وتجعلون له أنداداً}: أي أشباهاً وأمثالاً من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه. وقال السدي: أكفاء من الرجال يطيعونهم، وتجعلون معطوف على لتكفرون، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ، {ذلك} أي موجد الأرض ومخترعها، {رب العالمين} من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم.
{وجعل فيها رواسي}: إخبار مستأنف، وليس من الصلة في شيء، بل هو معطوف على قوله: {لتكفرون}. {وبارك فيها}: أكثر فيها خيرها. {وقدر فيها أقواتها}: أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت، قاله السدي. وقال قتادة: أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وقال مجاهد: أقواتها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضاً: خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوّت من الملابس والمطاعم والنبات.
{في أربعة أيام}: أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقال الزمخشري {في أربعة أيام}، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. انتهى، وهذا كما تقول: بنيت جدار بيتي في يوم، وأكملت جميعه في يومين، أي بالأول.
وقال أبو عبد الله الرازي: ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل. أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال في أربعة أيام سواء، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى. ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق، وكذلك اليومين يقتضيانه، ومتى كان الظرف معدوداً، كان العمل في جميعه، إما على سبيل التعميم، نحو: سرت يومين، وقد يكون في بعض كل يوم منها، نحو: تهجدت ليلتين، فاحتمل الاستغراق، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين؛ وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة.
وقرأ الجمهور: سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع: أي هو سواء، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب: بالخفض نعتاً لأربعة أيام. قال قتادة والسدي: معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه، فإنه يجده كما قال تعالى. وقال ابن زيد وجماعة: معناه متسوٍ مهيأ. أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولابد طلب ما ينتفعون به، إذ هم بحال حاجة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: {للسائلين}؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين. انتهى، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين.
ولما شرح تخليق الأرض وما فيها، أتبعه بتخليق السماء فقال: {ثم استوى إلى السماء}: أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها، والمعنى: إلى خلق السماء. والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً. وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، فأحدث الله في ذلك سخونة، فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السموات.
وفيه أيضاً أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار. قال ابن عطية: هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر، وتقديره: فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها، وحينئذ {قال لها وللأرض ائتيا}. انتهى، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول، قال: والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه، وأن العبرة فيه أتم، والقدرة فيه أظهر. انتهى.
وقال الزمخشري: ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: {ائتيا}، شئتما ذلك أو أبيتما، فقالتا: آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: سل من يدقني، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت: لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما يقول: أتى عمله مرضياً مقبولاً. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء، وكون السماء سقفاً للأرض، وينصره قراءة من قرأ: أتيا وأتينا من المواتاة، وهي الموافقة، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت: ما معنى طوعاً أو كرهاً؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ قلت: لما جعلت مخاطبات ومجيبات، ووصفت بالطوع والكره، قيل: طائعين في موضع طائعات نحو قوله: ساجدين.
انتهى. وقرأ الجمهور: ائتيا من الإتيان، أي ائتيا أمري وإرادتي. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: أتيا على وزن فعلا، قالتا: أتينا على وزن فعلنا، من آتى يؤتى، كذا قال ابن عطية، قال: وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى. وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة، وهي الموافقة، فيكون وزن آتيا: فاعلاً، وآتينا: فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال: آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة، ومعناه: سارعنا على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى. وقرأ الأعمش: أو كرهاً بضم الكاف، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة. قال ابن عطية: وقوله قالتا، أراد الفرقتين المذكورتين: جعل السموات سماء، والأرضين أرضاً، وهذا نحو قول الشاعر:
ألم يحزنك أن حبال قومي ** وقومك قد تباينتا انقطاعاً

وعبر عنها بتباينتا. انتهى. هذا وليس كما ذكر، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك؟ ولذلك ثنى في قوله: تباينتا، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما.
والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات، فيكون خلق الأرض متقدماً على خلق السماء، ودحو الأرض غير خلقها، وقد تأخر عن خلق السماء، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة. وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة. وقوله: {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها} مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة. ثم قال بعد: {ثم استوى إلى السماء}، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها. وأورد أيضاً أن قوله تعالى للسماء وللأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً}، كناية عن إيجادهما، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد، وهو محال، وقد انتهى هذا الإيراد.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض، وتأول قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كان، كما قال تعالى: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} معناه: إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين، لأن ثم تقتضي التأخر، وكان تقتضي التقدم، فالجمع بينهما يفيد التناقض، ونظيره: ضربت زيداً اليوم، ثم ضربت عمراً أمس.
فكما أن هذا باطل، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى، قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين، والإيجاد يدل عليه قوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} وهذا محال، لا يقال للشيء الذي وجد كن، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين، وقضاؤه بأن سيحدث كذا، أي مدة كذا، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
والذي نقوله: أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان، والمهلة كأنه قال: فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء، فلا تعرض في الآية لترتيب، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض، ألف الأخبار فيه بثم، فصار كقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} بعد قوله: {فلا اقتحم العقبة} ومن ترتيب الأخبار {ثم آتينا موسى الكتاب} بعد قوله: {قل تعالوا أتل} ويكون قوله تعالى: {فقال لها وللأرض}، بعد إخباره بما أخبر به، تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى، كقولك: أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت، فحد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته. ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} الآية، ثم قال بعد: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً} الآية. وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني، وما جاء من ذلك مقصوراً على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان. {فقضاهن سبع سموات}: أي صنعهن وأوجدهن، كقول ابن أبي ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تبع

وعلى هذا انتصب سبع على الحال. وقال الحوفي: مفعول ثان، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً سبع سموات على التمييز. ويعني بقوله مبهماً، ليس عائداً على السماء، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بخلاف الحال أو المفعول الثاني، فإنه عائد على السماء على المعنى.
{وأوحي في كل سماء أمرها}، قال مجاهد وقتادة: وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها، وقاله السدي وقتادة: ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها. وقال الزمخشري: أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. {وحفظاً}: أي وحفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً انتهى. ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.